فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال النحاس: هو مشتق من كَوْكَبِ الشيءِ أي معظمه والجماعة من الخيل كَوْكَبٌ وكَبْكَبة.
قال ابن عباس: جمعوا فطرحوا في النار وقال مجاهد: دهوروا وقال مقاتل: قذفوا والمعنى واحد تقول: دهورت الشيء إذا جمعته ثم قذفته في مَهْوَاة يقال: هو يدهور اللقم إذا كبرها ويقال: في الدعاء كَبَّ الله عدوّ المسلمين ولا يقال أكبه وكبكبه، أي كبه وقلبه ومنه قوله تعالى: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا} والأصل كُبِّبوا فأبدل من الباء الوسطى كاف استثقالًا لاجتماع الباءات.
قال السدي: الضمير في {كُبْكِبُوا} لمشركي العرب {والغاوون} الآلهة.
{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ} من كان من ذريته وقيل: كل من دعاه إلى عبادة الأصنام فاتبعه.
وقال قتادة والكلبي ومقاتل: {الْغَاوُونَ} هم الشياطين وقيل: إنما تلقى الأصنام في النار وهي حديد ونحاس ليعذب بها غيرهم.
{قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} يعني الإنس والشياطين والغاوين والمعبودين اختصموا حينئذٍ.
{تالله} حلفوا بالله {إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي في خسار وتبار وحيرة عن الحق بينة إذا اتخذنا مع الله آلهة فعبدناها كما يعبد؛ وهذا معنى قوله: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين} أي في العبادة وأنتم لا تستطيعون الآن نصرنا ولا نصر أنفسكم.
{وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ المجرمون} يعني الشياطين الذين زينوا لنا عبادة الأصنام.
وقيل: أسلافنا الذين قلدناهم.
قال أبو العالية وعكرمة: {الْمُجْرِمُونَ} إبليس وابن آدم القاتل هما أوّل من سنّ الكفر والقتل وأنواع المعاصي.
{فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ} أي شفعاء يشفعون لنا من الملائكة والنبيين والمؤمنين.
{وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} أي صديق مشفق؛ وكان عليّ رضي الله عنه يقول: عليكم بالإخوان فإنهم عدّة الدنيا وعدّة الآخرة؛ ألا تسمع إلى قول أهل النار: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ}.
الزمخشري: وجمع الشافع لكثرة الشافعين ووحد الصديق لقلته؛ ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم مضت جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته؛ رحمة له وحسبة وإن لم تسبق له بأكثرهم معرفة؛ وأما الصديق فهو الصادق في ودادك الذي يهمه ما يهمك فأعز من بيض الأُنُوق؛ وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقال: اسم لا معنى له.
ويجوز أن يريد بالصديق الجمع والحميم القريب والخاص؛ ومنه حامّة الرجل أي أقرباؤه وأصل هذا من الحميم وهو الماء الحار؛ ومنه الحَمّام والحُمّى؛ فحامّة الرجل الذين يحرقهم ما أحرقه؛ يقال: هم حُزانته أي يحزنهم ما يحزنه ويقال: حَمّ الشيُء وأَحَمَّ إذا قرب، ومنه الحُمّى؛ لأنها تقرب من الأجل.
وقال علي بن عيسى: إنما سمي القريب حميمًا؛ لأنه يَحْمَى لغضب صاحبه، فجعله مأخوذًا من الحميّة.
وقال قتادة: يذهب الله عز وجل يوم القيامة مودّة الصديق ورقة الحميم.
ويجوز {وَلاَ صَدِيقٌ حَمِيمٌ} بالرفع على موضع {مِن شَافِعينَ}؛ لأن {مِن شَافِعِينَ} في موضع رفع وجمع صديق أصدِقاء وصُدَقاء وصِداق ولا يقال صُدُق للفرق بين النعت وغيره.
وحكى الكوفيون: أنه يقال في جمعه صُدْقان.
النحاس: وهذا بعيد؛ لأن هذا جمع ما ليس بنعت نحو رغِيف ورُغفان.
وحكوا أيضًا صديق وأصادِق وأفاعل إنما هو جمع أَفْعَل إذا لم يكن نعتًا نحو أشجع وأشاجع ويقال: صديق للواحد والجماعة وللمرأة؛ قال الشاعر:
نَصَبْنَ الهوَى ثم ارتمين قلوبَنا ** بأعْيُنِ أعْدَاءٍ وهُنّ صَدِيق

ويقال: فلان صُدَيّقِي أي أخص أصدقائي، وإما يُصَغّر على جهة المدح؛ كقول حُباب ابن المنذر: أنا جُذَيْلُها المحكَّك، وعُذَيْقُها المرَجَّب ذكره الجوهري.
النحاس: وجمع حميم أحِمَّاء وأَحِمَّة وكرهوا أفعِلاء للتضعيف.
{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} {أنّ} في موضع رفع، المعنى ولو وقع لنا رجوع إلى الدنيا لآمنا حتى يكون لنا شفعاء تمنوا حين لا ينفعهم التمني وإنما قالوا ذلك حين شفع الملائكة والمؤمنون.
قال جابر بن عبد الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليقول في الجنة ما فعل فلان وصديقه في الجحيم فلا يزال يشفع له حتى يشفعه الله فيه فإذا نجا قال المشركون: {مَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ}» وقال الحسن: ما اجتمع ملأ على ذكر الله، فيهم عبدٌ من أهل الجنة إلا شفعه الله فيهم، وإن أهل الإيمان ليشفع بعضهم في بعض وهم عند الله شافعون مشفَّعون.
وقال كعب: إن الرجلين كانا صديقين في الدنيا، فيمُرّ أحدهما بصاحبه وهو يُجر إلى النار، فيقول له أخوه: والله ما بقي لي إلا حسنة واحدة أنجو بها، خذها أنت يا أخي فتنجو بها مما أرى، وأبقى أنا وإياك من أصحاب الأعراف.
قال: فيأمر الله بهما جميعًا فيدخلان الجنة.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} تقدّم والحمد لله. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وأزلفت الجنة}:
قربت لينظروا إليها ويغتبطوا بحشرهم إليها.
{وبرزت الحجيم}: أظهرت وكشفت بحيث كانت بمرأى منهم كقوله: {فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله} وذلك على سبيل التوبيخ.
هل ينفعونكم بنصرهم إياكم، أو ينتصرون هم فينفعون أنفسهم بحمايتها، إذ هم وأنتم وقود النار؟ وقرأ الأعمش: فبرزت بالفاء، جعل تبريز الجحيم بعد تقريب الجنة يعقبه، وذلك لأن الواو للجمع، فيمكن أن يكون كل واحد منهما ظهوره قبل الآخر، وهو من تقديم الرحمة على العذاب، وهو حسن، لولا أن رسم المصحف بالواو.
وقرأ مالك بن دينار: {وبرزت} بالفتح والتخفيف؛ {الجحيم} بالرفع، بإسناد الفعل إليها اتساعًا.
ولما وبخهم وقرعهم، أخبر عن حال يوم القيامة، وجيء في ذلك كله بلفظ الماضي في أتى وأزلفت وبرزت.
وقيل: {فكبكبوا}، لتحقق وقوع ذلك، وإن كان لم يقع.
والضمير في: فكبكبوا عائد على الأصنام، أجريت مجرى من يعقل.
قال الكرماني: فكبكبوا: قذفوا فيها.
وقيل: جمعوا.
وقيل: هدروا.
وقيل: نكسوا على رءوسهم يموج بعضهم في بعض.
وقيل: ألقوا في جهنم ينكبون مرة بعد مرة حتى يستقروا في قعرها.
{والغاوون}: هم الكفرة الذين شملتهم الغواية.
وقيل: الضمير يعود على الكفار، والغاوون: الشياطين.
{وجنود إبليس}: قبيلة، وكل من تبعه فهو جند له وعون.
وقال السدّي: هم مشركو العرب، والغاوون: سائر المشركين.
وقيل: هم القادة والسفلة، قالوا: أي عباد الأصنام، والجملة بعده حال، والمقول جملة القسم ومتعلقه، والخطاب في {نسويكم} للأصنام على جهة الإقرار والاعتراف بالحق.
قال ابن عطية: أقسموا بالله إن كنا إلا ضالين في أن نعبدكم ونجعلكم سواء مع الله تعالى، الذي هو رب العالمين وخالقهم ومالكهم. انتهى.
وقوله: إن كنا إلا ضالين، إن أراد تفسير المعنى فهو صحيح، وإن أراد أن إن هنا نافية، واللام في لفي بمعنى إلا، فليس مذهب البصريين، وإنما هو مذهب الكوفيين.
ومذهب البصريين في مثل هذا أن إن هي المخففة من الثقيلة، وأن اللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن التي هي لتأكيد مضمون الجملة.
{وما أضلنا إلا المجرمون}: أي أصحاب الجرائم والمعاصي العظام والجرأة، وهم ساداتهم ذوو المكانة في الدنيا والاستتباع كقولهم: {أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} وقال السدي: هم الأولون الذين اقتدوا بهم.
وقيل: المجرمون: الشياطين، وقيل: من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس.
قال ابن جريج: إبليس وابن آدم القاتل، لأنه أول من سن القتل وأنواع المعاصي.
وحين رأوا شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء نافعة في أهل الإيمان، وشفاعة الصديق في صديقه خاصة، قالوا على جهة التلهف والتأسف، {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم}.
قال ابن جريج: شافعين من الملائكة وصديق من الناس.
ولفظة الشفيع تقتضي رفعة مكانة عند المشفوع عنده، ولفظة الصديق تقتضي شدة مساهمة ونصرة، وهو فعيل من صدق الود من أبنية المبالغة ونفي الشفعاء.
والصديق يحتمل أن يكون نفيًا لوجودهم إذ ذاك، وهم موجودون للمؤمنين، إذ تشفع الملائكة وتتصادق المؤمنون، كما قال: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين، أو ذلك على حسب اعتقادهم في معبوداتهم أنهم شفعاؤهم عند الله، وأن لهم أصدقاء من الإنس والشياطين، فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع، لأن ما لا ينفع، حكمه حكم المعدوم، فصار المعنى: فما لنا من نفع من كنا نعتقد أنهم شفعاء وأصدقاء، وجمع الشفعاء لكثرتهم في العادة.
ألا ترى أنه يشفع فيمن وقع في ورطة من لا يعرفه، وأفرد الصديق لقلته، وأريد به الجمع؟ إذ يقال: هم صديق، أي أصدقاء، كما يقال: هم عدو، أي أعداء.
والظاهر أن لو هنا أشربت معنى التمني، وفنكون الجواب، كأنه قيل: يا ليت لنا كرة فنكون.
وقيل: هي الخالصة للدلالة لما كان سيقع لوقوع غيره، فيكون قوله: {فنكون} معطوفًا على كرة، أي فكونا من المؤمنين، وجواب لو محذوف، أي لكان لنا شفعاء وأصدقاء، أو لخلصنا من العذاب.
والظاهر أن هذه الجمل كلها متعلقة بقول إبراهيم، أخبر بما أعلمه الله من أحوال يوم القيامة، وما يكون فيها من حال قومه.
قال ابن عطية: وهذه الآيات من قوله: {يوم لا ينفع مال ولا بنون} هي عندي منقطعة من كلام إبراهيم عليه السلام، وهي إخبار من الله عز وجل، تعلق بصفة ذلك اليوم الذي وقف إبراهيم عليه السلام عنده في دعائه أن لا يخزي فيه. انتهى.
وكان ابن عطية قد أعرب {يوم لا ينفع} بدلًا من {يوم يبعثون}، وعلى هذا لا يتأتى هذا الذي ذكره من تفكيك الكلام، وجعل بعضه من كلام إبراهيم، وبعضه من كلام الله، لأن العامل في البدل على مذهب الجمهور فعل آخر من لفظ الأول، أو الأول.
وعلى كلا التقديرين، لا يصح أن يكون من كلام الله، إذ يصير التقدير: ولا تخزني يوم لا ينفع مال ولا بنون.
والإشارة بقوله: {إن في ذلك لآية} إلى قصة إبراهيم عليه السلام ومحاورته لقومه.
{وما كان أكثرهم}: أي أكثر قوم إبراهيم.
بين تعالى أن أكثر قومه لم يؤمنوا مع ظهور هذه الدلائل التي استدل بها إبراهيم عليه السلام، وفي ذلك مسلاة للرسول صلى الله عليه وسلم في تكذيب قومه إياه عليه السلام. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ} عطف على لا ينفع. وصيغةُ الماضي فيه وفيما بعدَهُ من الجُمل المنتظمةِ معه في سلك العطف للدِّلالة على تحقُّق الوقوعِ وتقرُّره كما أنَّ صيغةَ المضارعِ في المعطوفِ عليه للدِّلالة على استمرار انتفاءِ النَّفع ودوامِه حسبما يقتضيهِ مقامُ التَّهويل والتَّفظيعِ أي قُربتِ الجنَّةُ للمتَّقين عن الكفر والمَعاصي بجيثُ يُشاهدونها من الموقفِ ويقفُون على ما فيها من فنُون المحاسنِ فيبتهجُون بأنَّهم المحشورون إليها.
{وَبُرّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ} الضَّالِّين عن طريق الحقِّ الذي هو الإيمانُ والتَّقوى أي جُعلت بارزةً لهم بحيث يَرَونها مع ما فيها من أنواع الأحوالِ الهائلةِ ويُوقنون بأنَّهم مواقعوها ولا يجدُون عنها مَصْرفًا {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} في الدُّنيا {تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أي أين آلهتكم الذين كنتُم تزعمون في الدُّنيا أنَّهم شفعاؤكم في هذا الموقفِ {هَلْ يَنصُرُونَكُمْ} بدفعِ العذابِ عنكم {أَوْ يَنتَصِرُونَ} بدفعه عن أنفسهم، وهذا سؤالُ تقريعٍ وتبكيتٍ لا يُتوقَّع له جوابٌ ولذلك قيل: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا} أي أُلقوا في الجحيمِ على وجوهِهم مرَّةً بعد أُخرى إلى أنْ يستقرُّوا في قعرها {هُمْ} أي آلهتُهم {والغاوون} الذين كانُوا يعبدونهم، وفي تأخير ذكرِهم عن ذكر آلهتكم رمزٌ إلى أنَّهم يؤخَّرون عنها في الكبكبةِ ليُشاهدوا سوءَ حالِها فيزدادوا غمًِّا إلى غمَّهم.